المادة    
يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: (قيل للفضيل : هل هذا الكلام -وهو أن الإيمان يشمل هذه الواجبات مع تلك الأركان والأصول- من رأيك، أم سمعته مأثوراً منقولاً عمن قبلك؟
قال: بل أخذناه وتعلمناه ونقلناه عن أهل الفضل والفقه والعلم ممن قبلنا).
قال الإمام أحمد: (وقال فضيل : يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة) وهذا التفريق عظيم جداً؛ لأنه من إمام جليل ومن مصدر موثوق متقدم فرق به بين نوعين من أنواع الإرجاء، فسمى الفريق الأول أهل الإرجاء، وسمى الفريق الثاني الجهمية .
وهنا نستفيد من هذا النص فائدة علمية عظيمة جداً، وهي أن السلف إذا ذموا المرجئة أو تكلموا فيهم وطعنوا في عقائدهم؛ فإنما يعنون بهم مرجئة الفقهاء أهل الكوفة ، أما الذي يقول: إن الإيمان مجرد المعرفة فهذا لا يسميه السلف مرجئاً، بل يسمونه جهمياً، فهذا له وصف آخر وشأن آخر.
وهذه من الفوائد المهمة التي يجب أن نعلمها، وعليه فإذا أردنا أن نسمي الأشاعرة على الحقيقة في باب الإيمان فهل نسميهم مرجئة أم جهمية الأشاعرة ؟
إن الأشاعرة يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب. ولا يدخلون قول اللسان ولا عمل الجوارح ولا عمل القلب في الإيمان، بل التصديق بالقلب فحسب هو الإيمان عند الأشاعرة ، وبناءً على هذا يدخلون في الجهمية، ولذا فإن إماماً من أئمتهم -وهو أبو المعالي الجويني - يذكر في الإرشاد المذاهب في الإيمان، فيقول في معنى كلامه: قال السلف: الإيمان قول وعمل، وقال جهم : الإيمان المعرفة بالقلب فقط، وقال أهل العراق أو الكوفة : الإيمان: التصديق والإقرار باللسان، قال: والذي نختاره أن الإيمان هو التصديق بالقلب وحده.
فهو في الحقيقة يقول بصراحة: أنا أخالف السلف، وأنا أخالف أبا حنيفة ومرجئة الفقهاء ، وأخالف الخوارج والمعتزلة ، وأقول كقول جهم ؛ إذ الفرق بينه وبين جهم هو أن جهماً قال: الإيمان المعرفة، وهو قال: التصديق، فإذا كان الإيمان هو التصديق بالقلب مجرداً عن عمل القلب وعمل الجوارح وقول اللسان، فما الفرق بينه وبين مجرد المعرفة بالقلب؟! إن الفرق بينهما شيء دقيق قد يصعب على العقلاء أن يتصوروه.
فنقول: مثل كلام هؤلاء الأئمة له قيمته العلمية، ولذلك نجد أن الفضيل وعبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وإسحاق والإمام أحمد و يزيد بن هارون وكثيراً من العلماء الذين يتكلمون في ذم الإرجاء والمرجئة -كما جمع الطبري كلامهم في تهذيب الآثار ، وجمعه اللالكائي و الآجري - إنما يقصدون الذين يقولون: إن الإيمان إقرار باللسان واعتقاد بالقلب، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، فمصدر الذم عندهم وسببه أن هؤلاء لا يدخلون الأعمال في الإيمان، أما من وصل به الحال إلى أنه لا يدخل الإقرار باللسان ولا يدخل أعمال القلب أيضاً؛ يعد من الجهمية .
وعليه فلا مانع بعد ذلك أن نقول: إن المرجئة على ضربين: مرجئة الفقهاء وقولهم كذا وكذا، والمرجئة الغلاة وهم الجهمية ، ثم نقول: والمرجئة الغلاة أقسام: الجهمية و الأشعرية و الماتريدية ومن وافقهم.
وعلينا أن نعلم -كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في: (فضل علم السلف على علم الخلف )- أن الكلمة الواحدة من كلام السلف توزن بمجلدات من كلام الخلف، وذلك مثل هذه العبارة في هذا التعريف الدقيق.
إذاً: فكل ذم ورد عن العلماء المتقدمين في ذم المرجئة فالمقصود به مرجئة الفقهاء ، أما عندما يتكلمون عن المرجئة الغلاة الذين يرون أن الإيمان عمل واحد من أعمال القلب؛ فهؤلاء يسمونهم الجهمية ، والذم والعيب والطعن فيهم أكثر.
فإن كان ولا بد من أن نسميهم مرجئة فنقول: المرجئة منهم الغلاة وهم الجهمية ، ومنهم المرجئة الآخرون وهم مرجئة الفقهاء ، ويدخل فيهم كذلك الكرامية الذين يقولون: إن الإيمان هو قول اللسان فقط.
ويمكن أن نقسم الناس في الإيمان قسمة أخرى، فنقول: من الناس من يجعل الإيمان شيئاً واحداً، ومنهم من يجعله شيئين، ومنهم من يجعله أكثر، فالذين جعلوا الإيمان شيئاً واحداً هم المرجئة الغلاة، وهم الأشاعرة الذين يقولون: هو التصديق، والجهمية الذين يقولون: هو المعرفة، والكرامية الذين يقولون: هو قول، والذين يرون الإيمان شيئين هم مرجئة الفقهاء ، والذين يرونه أكثر من ذلك هم أهل السنة والجماعة .
ويمكن أن نأتي بقسمة أخرى بحسب الأعضاء فنقول: من الناس من يكون الإيمان عندهم بالقلب وباللسان وبالجوارح، وهؤلاء هم أهل السنة ، ومنهم من يقول: إن الإيمان يكون بالقلب وحده، وهؤلاء هم الجهمية والأشاعرة.
ومنهم من يقول: إنه يكون باللسان وحده وهم الكرامية .
يقول الفضيل رحمه الله تعالى: (يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية : الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة : الإيمان المعرفة والقول والعمل، فمن قال: الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر وغامر؛ لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه)، فلو أن شخصاً قال: أنا مقر ومؤمن، والأعمال عندي ليست داخلة في الإيمان، فإنه يذنب بناءً على هذا بذنب، فالنتيجة أنه خاطر؛ لأن الذنوب قد تعود على الإقرار بالإبطال، فلا ينفعه ذلك الإقرار.
أما المؤمن فإنه -وإن أذنب- يشعر بأن الذنوب تضعف الإيمان وتنقصه وتدني درجته ومرتبته، فلا يهمل في الطاعة ولا يهمل في الأعمال، ويخاف من الذنوب ويخشاها.